سورة مريم - تفسير تفسير ابن الجوزي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (مريم)


        


قوله تعالى: {ويقول الإِنسان} سبب نزولها أن أُبيَّ بن خلف أخذ عظماً بالياً، فجعل يفتّه بيده ويذريه في الريح ويقول: زعم لكم محمد أن الله يبعثنا بعد أن نكون مثل هذا العظم البالي، فنزلت هذه الآية، رواه أبو صالح عن ابن عباس. وروى عطاء عن ابن عباس: أنه الوليد بن المغيرة.
قوله تعالى: {لسوف أُخْرَجُ حَيّاً} إِن قيل: ظاهره ظاهر سؤال، فأين جوابه؟ فعنه ثلاثة أجوبة ذكرها ابن الأنباري.
أحدها: أن ظاهر الكلام استفهام، ومعناه معنى جحد وإِنكار، تلخيصه: لستُ مبعوثاً بعد الموت.
والثاني: أنه لمّا استفهم بهذا الكلام عن البعث، أجابه الله عز وجل بقوله: {أَوَلا يَذْكُرُ الإِنسان}، فهو مشتمل على معنى: نعم، وأنت مبعوث.
والثالث: أن جواب سؤال هذا الكافر في [يس: 78] عند قوله تعالى: {وضرب لنا مَثَلاً}، ولا يُنكَر بُعْد الجواب، لأن القرآن كلَّه بمنزلة الرسالة الواحدة، والسورتان مكيَّتان.
قوله تعالى: {أولا يَذكر الإِنسانُ} قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي: بفتح الذال مشددة الكاف. وقرأ نافع، وعاصم، وابن عامر: {يَذْكُرُ} ساكنة الذال خفيفة. وقرأ أُبيّ بن كعب، وأبو المتوكل الناجي: {أَوَلا يتذكَّر الإِنسان} بياء وتاء. وقرأ ابن مسعود، وابن عباس، وأبو عبد الرحمن السلمي، والحسن: {يذْكُر} بياء من غير تاء ساكنة الذال مخففة مرفوعة الكاف، والمعنى: أَوَلا يتذكَّر هذا الجاحد أوَّل خلقه، فيستدل بالابتداء على الإِعادة؟! {فوربك لنحشرنَّهم} يعني: المكذِّبين بالبعث {والشياطينَ} أي: مع الشياطين، وذلك أن كل كافر يُحشَر مع شيطانه في سلسلة، {ثم لنُحْضِرَنَّهم حول جهنَّم} قال مقاتل: أي: في جهنم، وذلك أن حول الشيء يجوز أن يكون داخلَه، تقول: جلس القوم حول البيت: إِذا جلسوا داخله مطيفين به. وقيل: يجثون حولها قبل أن يدخلوها.
فأما قوله: {جِثِيّاً} فقال الزجاج: هو جمع جاثٍ، مثل قاعدٍ وقعودٍ، وهو منصوب على الحال، والأصل ضم الجيم، وجاء كسرها إِتباعاً لكسرة الثاء.
وللمفسرين في معناه خمسة أقوال.
أحدها: قعوداً، رواه العوفي عن ابن عباس.
والثاني: جماعات جماعات، روي عن ابن عباس أيضاً. فعلى هذا هو جمع جثْوة وهي المجموع من التراب والحجارة.
والثالث: جثيّاً على الرُّكَب، قاله الحسن، ومجاهد، والزجاج.
والرابع: قياماً، قاله أبو مالك.
والخامس: قياماً على رُكَبهم، قاله السدي، وذلك لضيق المكان بهم.
قوله تعالى: {لَنَنْزِعَنّ مِنْ كل شيعة} أي: لنأخذنّ من كل فِرقة وأُمَّة وأهل دين {أيُّهم أَشَدُّ على الرحمن عَتِيّاً} أي: أعظمهم له معصية، والمعنى: أنه يُبدَأ بتعذيب الأعتى فالأعتى، وبالأكابر جُرْماً، والرؤوس القادة في الشرِّ. قال الزجاج: وفي رفع {أَيُّهم} ثلاثة أقوال.
أحدها: أنه على الاستئناف، ولم تعمل {لننزعنَّ} شيئاً، هذا قول يونس.
والثاني: أنه على معنى الذي يقال لهم: أيُّهم أشدُّ على الرحمن عِتِيّاً؟ قاله الخليل، واختاره الزجاج، وقال: التأويل: لننزعنّ الذي من أجل عُتُوِّه يقال: أيُّ هؤلاء أَشَدُّ عِتِيّاً؟ وأنشد:
وَلَقَدْ أَبِيتُ عن الفَتَاةِ بمنزلٍ *** فأبيت لا حَرِج ولا محروم
المعنى: أبيت بمنزلة الذي يقال له: لا هو حَرِج ولا محروم.
والثالث: أن {أيُّهم} مبنية على الضم، لأنه خالفت أخواتها، فالمعنى: أيُّهم هو أفضل. وبيان خلافها لأخواتها أنك تقول: اضرب أيُّهم أفضل، ولا يَحْسُن: اضرب مَنْ أفْضل، حتى تقول: من هو أفضل، ولا يَحْسُن: كُلْ ما أطيب، حتى تقول: ما هو أطيب، ولا خُذْ ما أفضل، حتى تقول: الذي هو أفضل، فلما خالفت ما ومَنْ والذي بُنيت على الضم، قاله سيبويه.
قوله تعالى: {هُمْ أَوْلى بها صِلِيّاً} يعني: أن الأَوْلى بها صِلِيّاً الذين هم أشدُّ عِتِيّاً، فيُبْتَدَأُ بهم قبل أتباعهم. و{صِلِيّاً}: منصوب على التفسير، يقال: صَلي النار يصلاها: إِذا دخلها وقاسى حَرَّها.
قوله تعالى: {وإِنْ منكم إِلا واردها} في الكلام إِضمار تقديره: وما منكم أحد إِلا وهو واردها.
وفيمن عُني بهذا الخطاب قولان:
أحدهما: أنه عامّ في حق المؤمن والكافر، هذا قول الأكثرين. وروي عن ابن عباس أنه قال: هذه الآية للكفار. وأكثر الروايات عنه كالقول الأول. قال ابن الأنباري: ووجه هذا أنه لما قال: {لنُحْضِرَنَّهم} وقال: {أيُّهم أشدُّ على الرحمن عِتِيّاً} كان التقدير: وإِن منهم، فأبدلت الكاف من الهاء، كما فعل في قوله: {إِنّ هذا كان لكم جزاءً} [الانسان: 22] المعنى: كان لهم، لأنه مردود على قوله: {وسقاهم ربُّهم} [الانسان: 21]، وقال الشاعر:
شَطَّتْ مزارَ العاشقين فأصبحتْ *** عَسِراً عليّ طلابُكِ ابنةَ مَخْرَمِ
أراد: طلابها. وفي هذا الورود خمسة أقوال.
أحدها: أنه الدخول. روى جابر بن عبد الله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الورود: الدخول لا يبقى بَرّ ولا فاجر إِلا دخلها، فتكون على المؤمن برداً وسلاماً كما كانت على إِبراهيم، حتى إِن للنار أو قال: لجهنم ضجيجاً من بردهم» وروي عن ابن عباس أنه سأله نافع بن الأزرق عن هذه الآية، فقال له: «أمّا أنا وأنت فسندخلها، فانظر أيُخرجنا الله عز وجل منها، أم لا؟» فاحتج بقوله تعالى {فأوردهم النار} [هود: 98] وبقوله تعالى: {أنتم لها واردون} [الأنبياء: 98]. وكان عبد الله بن رواحة يبكي ويقول: أُنبئت أني وارد، ولم أُنبَّأ أني صادر. وحكى الحسن البصري: أن رجلاً قال لأخيه: يا أخي هل أتاك أنك واردٌ النار؟ قال: نعم؛ قال: فهل أتاك أنك خارجٌ منها؟ قال: لا؛ قال: ففيم الضحك؟! وقال خالد بن معدان: إِذا دخل أهل الجنة الجنة، قالوا: ألم يَعِدْنا رَبُّنا أن نرد النار؟ فيقال لهم: بلى، ولكن مررتم بها وهي خامدة.
وممن ذهب إِلى أنه الدخول: الحسن في رواية، وأبو مالك.
وقد اعتُرِض على أرباب هذا القول بأشياء. فقال الزجاج: العرب تقول: وردت بلد كذا، ووردت ماء كذا: إِذا أشرفوا عليه وإِن لم يدخلوا، ومنه قوله تعالى: {ولما ورد ماءَ مدين} [القصص: 33]، والحجة القاطعة في هذا القول قوله تعالى: {أولئك عنها مبعَدون. لا يسمعون حسيسها} [الأنبياء: 101، 102]، وقال زهير:
فَلَمَّا وَرَدْنَ الماءَ زُرْقاً جِمَامُهُ *** وَضَعْنَ عِصيَّ الحاضِرِ المُتَخيِّم
أي: لما بلغن الماء قمن عليه.
قلت: وقد أجاب بعضهم عن هذه الحجج، فقال: أما الآية الأولى، فإن موسى لما أقام حتى استقى الماء وسقى الغنم، كان بلبثه ومباشرته كأنه دخل؛ وأما الآية الأخرى: فإنها تضمنت الإِخبار عن أهل الجنة حين كونهم فيها، وحينئذ لا يسمعون حسيسها. وقد روينا آنفاً عن خالد بن معدان أنهم يمرُّون بها، ولا يعلمون.
والثاني: أن الورود: الممرُّ عليها، قاله عبد الله بن مسعود، وقتادة. وقال ابن مسعود: يَرِد الناس النار، ثم يصدرون عنها بأعمالهم، فأولُهم كلمح البرق، ثم كالريح، ثم كحُضْر الفرس ثم كالراكب في رحله، ثم كشدِّ الرحل، ثم كمشيه.
والثالث: أن ورودها: حضورها، قاله عبيد بن عمير.
والرابع: أن ورود المسلمين: المرور على الجسر، وورود المشركين: دخولها. قاله ابن زيد.
والخامس: أن ورود المؤمن إِليها: ما يصيبه من الحمَّى في الدنيا، روى عثمان بن الأسود عن مجاهد أنه قال: الحمَّى حظّ كل مؤمن من النار، ثم قرأ: {وإِنْ منكم إِلا واردها} فعلى هذا مَن حُمَّ من المسلمين، فقد وردها.
قوله تعالى: {كان على ربك} يعني: الورود {حتماً} والحتم: ايجاب القضاء، والقطع بالأمر. والمقضيُّ: الذي قضاه الله تعالى، والمعنى: إِنه حتم ذلك وقضاه على الخلق.
قوله تعالى: {ثم ننجِّي الذين اتَّقَوْا} وقرأ ابن عباس، وأبو مجلز، وابن يعمر، وابن أبي ليلى، وعاصم الجحدري: {ثَمَّ} بفتح الثاء. وقرأ الكسائي، ويعقوب: {نُنْجي} مخففة. وقرأت عائشة، وأبو بحرية، وأبو الجوزاء الربعي: {ثم يُنجي} بياء مرفوعة قبل النون خفيفة الجيم مكسورة. وقرأ أُبيّ بن كعب، وأبو مجلز، وابن السميفع، وأبو رجاء: {ننحِّي} بحاء غير معجمة مشددة. وهذه الآية يحتج بها القائلون بدخول جميع الخلق، لأن النجاة: تخليص الواقع في الشيء، ويؤكِّده قوله تعالى: {ونذر الظالمين فيها} ولم يقل: ونُدخلهم؛ وإِنما يقال: نذَر ونترك لمن قد حصل في مكانه. ومن قال: إِن الورود للكفار خاصة، قال: معنى هذا الكلام: نخرج المتَّقين من جملة من يدخل النار. والمراد بالمتقين: الذين اتَّقَوْا الشرك، وبالظالمين: الكفار. وقد سبق معنى قوله تعالى: {جِثِيّاً} [مريم: 68].


قوله تعالى: {وإِذا تُتْلى عليهم} يعني: المشركين {آياتنا} يعني: القرآن {قال الذين كفروا} يعني: مشركي قريش {للذين آمنوا} أي: لفقراء المؤمنين {أيُّ الفريقين خيرٌ مَقاماً} قرأ نافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وحمزة، والكسائي، وأبو بكر، وحفص عن عاصم مَقاماً بفتح الميم. وقرأ ابن كثير بضم الميم. قال أبو علي الفارسي: المقام: اسم المثوى، إِن فُتحت الميم أو ضُمَّتْ.
قوله تعالى: {وأحسن نديَّاً} والنديُّ والنادي: مجلس القوم ومجتمَعهم. وقال الفراء: النديُّ والنادي، لغتان. ومعنى الكلام: أنحن خير، أم أنتم؟ فافتخروا عليهم بالمساكن والمجالس، فأجابهم الله تعالى فقال: {وكم أهلكنا قبلهم من قرن} وقد بينا معنى القرن في [الأنعام: 6] وشرحنا الاثاث في [النحل: 80].
فأما قوله تعالى: {وَرِئْيَاً} فقرأ ابن كثير، وعاصم، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي: {ورئياً} بهمزة بين الراء والياء في وزن: رِعيا؛ قال الزجاج: ومعناها: منظراً، من رأيت.
وقرأ نافع، وابن عامر: {رِيّاً} بياء مشددة من غير همز، قال الزجاج: لها تفسيران. أحدهما: أنها بمعنى الأولى. والثاني: أنها من الرِّيّ، فالمعنى: منظرهم مرتوٍ من النعمة، كأن النعيم بَيِّنٌ فيهم.
وقرأ ابن عباس، وأبو المتوكل، وأبو الجوزاء، وابن أبي سريج عن الكسائي: {زيّاً} بالزاي المعجمة مع تشديد الياء من غير همز. قال الزجاج: ومعناها: حسن هيئتهم.


قوله تعالى: {قل من كان في الضلالة} أي: في الكفر والعمى عن التوحيد {فليمدد له الرحمن} قال الزجاج: وهذا لفظ أمر، ومعناه الخبر، والمعنى: أن الله تعالى جعل جزاء ضلالته أن يتركه فيها، قال ابن الأنباري: خاطب الله العرب بلسانها، وهي تقصد التوكيد للخبر بذكر الأمر، يقول أحدهم: إِن زارنا عبد الله فلنُكْرِمْه، يقصد التوكيد، وينبِّه على أني أُلزم نفسي إِكرامه؛ ويجوز أن تكون اللام لام الدعاء على معنى: قل يا محمد: مَنْ كان في الضلالة فاللَّهم مُدَّ له في النِّعَم مَدّاً. قال المفسرون: ومعنى مدِّ اللهِ تعالى له: إِمهالُه في الغَيِّ. {حتى إِذا رأوا} يعني الذين مَدَّهم في الضلالة. وإِنما أخبر عن الجماعة، لأن لفظ مَن يصلح للجماعة. ثم ذكر ما يوعدون فقال: {إِمَّا العذاب} يعني: القتل، والأسر {وإِمَّا الساعة} يعني: القيامة وما وُعدوا فيها من الخلود في النار {فسيعلمون من هو شرٌّ مكاناً} في الآخرة، أهم، أم المؤمنون؟ لأن مكان هؤلاء الجنة، ومكان هؤلاء النار، {و} يعلمون بالنصر والقتل من {أضعف جنداً} جندهم، أم جند رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهذا ردٌّ عليهم في قولهم: {أيُّ الفريقين خيرٌ مقاماً وأحسنُ نَدِيّاً}.
قوله تعالى: {ويزيد الله الذين اهتدوا هدى} فيه خمسة أقوال.
أحدها: ويزيد الله الذين اهتدَوا بالتوحيد إِيماناً.
والثاني: يزيدهم بصيرةً في دينهم.
والثالث: يزيدهم بزيادة الوحي إِيماناً، فكلما نزلت سورة زاد إِيمانهم.
والرابع: يزيدهم إِيماناً بالناسخ والمنسوخ.
والخامس: يزيد الذين اهتدوا بالمنسوخ هدى بالناسخ. قال الزجاج: المعنى: إِن الله تعالى يجعل جزاءهم أن يزيدهم يقيناً، كما جعل جزاء الكافر أن يمدَّه في ضلالته.
قوله تعالى: {والباقيات الصالحات} قد ذكرناها في سورة [الكهف: 46]. قوله تعالى: {وخير مردّاً} المردُّ هاهنا مصدر مثل الردّ، والمعنى: وخيرٌ ردّاً للثواب على عامليها، فليست كأعمال الكفار التي خسروها فبطلت.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7